فيلم "أحلام" العراقي وسينما ما بعد صدام
الفيلم العراقي "احلام" يصور الفوضى الماثلة في الشارع العراقي حاليا
أحلام الهائمة على وجهها في شوارع بغداد لم تعثر على الأمان
احتفاء كبير بالفيلم العراقي (من التمويل الهولندي- البريطاني) الذي يحمل عنوان "أحلام" للمخرج محمد الدراجي، في مهرجان روتردام السينمائي الأخير.
هذا الاهتمام الكبير،على المستوى الإعلامي على الأقل، جاء مبالغا فيه، تماما كما كان الاهتمام بفيلم "بغداد بلوجر" Baghdad Blogger لصاحبه سلام باكس في المهرجان نفسه العام الماضي. وإذا كان يمكن اعتبار "بغداد بلوجر" مجرد تدريبات على التصوير بكاميرا الفيديو لتقديم لقطات ذات دلالة خاصة لبغداد في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي مباشرة، يمكن اعتبار فيلم "أحلام" - وهو فيلم روائي طويل 110 دقيقة- خليطا سينمائيا أقرب إلى الفوضى البصرية مع بعض الطموح لتقديم دراما إنسانية، ولكن دون تحقق أو اكتمال.
التعاطف مع هذا النوع من الأفلام ينبع عادة من سخونة الحدث ومعاصرته بعد أن أصبح ما يحدث يوميا في العاصمة العراقية بغداد مادة أساسية في نشرات الأخبار والقصص الإخبارية لمراسلي التليفزيون حول العالم.
سر المغالاة في الاهتمام قد يرجع أيضا، إلى كون "أحلام" هو الفيلم العراقي الثاني الذي يصور في العراق بعد ما وقع في ربيع 2003 من أحداث صاخبة أدت إلى الإطاحة بالنظام السابق.
ويعلمنا تاريخ السينما أن أفضل الأفلام التي ظهرت عن أحداث سياسية كبيرة لم تكن الأفلام الأولى التي صنعت عن تلك الأحداث، بل ويقتضي الأمر عادة، مرور سنوات بعد وقوع الحدث السياسي، لكي يصبح ممكنا تقديم عمل سينمائي متكامل يحمل رؤية واضحة وناضجة.
ويعلمنا تاريخ السينما أيضا أن أفضل الأفلام ليست بالضرورة تلك التي تستند إلى وقائع وأحداث حقيقية، فليس كل ما يحدث في الواقع يمكن تصويره بنجاح في السينما، بل يمكن تصوير أحداث "مفترضة" بإقناع وصدق أكثر، والمحك في ذلك يكمن في قدرة السينمائي على تجسيد رؤيته.
ولعل هذا "التلهف" على "اقتناص" اللحظة الحاضرة بدراميتها الساخنة، كان وراء الاهتمام أولا بتمويل الفيلم من جانب شركات غربية، وثانيا وراء تضخيمه وتلميعه في عدد من المهرجانات السينمائية، وهو أمر يتوقع استمراره طوال عام 2006.
فيلم "أحلام" يقوم - كما يقول مخرجه ومؤلفه وكما تؤكد طريقة صنعه- على أحداث حقيقية أو على قصص شخصية وقعت لعدد من الشخصيات التي كان يمكن بالتأكيد أن تصنع فيلما رقيقا مرهفا ومؤثرا.
شخصيات الفيلم ثلاث شخصيات عاشت زمن صدام حسين واكتوت بنيران العهد من قمع وظلم واضطهاد.
"أحلامِ" التي يعتقل خطيبها ليلة عرسها ويلقى به "وراء الشمس".
و"علي" الجندي الذي يقبضون عليه ويتهمونه بمحاولة الهرب من الخدمة إلى سورية بينما كان يحاول إنقاذ حياة صديقه "حسن" الذي أصيب إصابات خطيرة في قصف جوي أمريكي.
وهناك ايضا "مهدي" الطبيب الشاب الذي رفضت السلطات أن يستكمل دراساته العليا بسبب انتماءات والده السياسية القديمة، وانتهى إلى العمل في مستشفى للأمراض العقلية حيث يشهد كيف يضطهد المعارضون. تنتهي "أحلام" إلى مستشفى الأمراض العقلية أيضا بعد أن أصيبت باضطراب نفسي شديد، كما ينتهي "علي" الذي قطعوا أذنه عقابا له على تمرده المزعوم.
وعندما يقع الغزو الأمريكي عام 2003 يتعرض المستشفى للقصف، ويقتل من يقتل ويهرب معظم المرضى، ويبقى الطبيب مهدي الوحيد الذي ينجو من بين الأطباء، فيسعى مع "علي" إلى محاولة إنقاذ المرضى الهاربين وإعادتهم إلى المستشفى وبينهم "أحلام".
هذه الشخصيات كان يمكن أن تصنع دراما جيدة إذا ما أحسن توظيفها، وعرف المخرج كيف يوازن فيما بينها، وأن يبوح بحساب بمكنون أعماقها.
إلا أن ما حدث هو أن المخرج (وهو نفسه المؤلف والمصور) أراد أن يروي كل شئ عن كل شئ، فأدخل عشرات التفاصيل الأخرى التي أدت إلى الوقوع في الثرثرة والاستطرادات والاستغراق في سرد الأحلام والكوابيس المفتعلة، وتكرار اللقطات وترك المجال أمام المبالغات الميلودرامية في الأداء، وحشد عشرات الشخصيات الثانوية التي تتداخل ويضيع مغزى وجودها في الفيلم أصلا.
هناك حكايات طويلة عن رغبة الجندي الآخر "حسن" في التمرد، وكيف أنه يفكر في الهرب إلى أوروبا لكي يعالج شعره الذي لم نر بالمناسبة أي عيب فيه.
وتصبح مشكلة شعر حسن التي يتحدث عنها فيما لا يقل عن 5 مشاهد في الفيلم، مشكلة مضحكة، لأنها ليست مبررا كافيا للهرب خاصة وانه يمزجها بشكل يبدو غير مقنع، بتبرمه من القتال "من أجل صدام" كما يقول.
بل إن صديقه "علي" يبدو أكثر منطقية عندما يقول له إن القتال ليس من أجل صدام بل من أجل الوطن!
وعندما يصاب حسن يحمله علي ويصعد ويهبط تلالا وسهولا، في مشاهد طويلة ساذجة تكاد تصم شخصية علي بالتخلف، فهو لا يعرف أين يتجه ولماذا وهل هذه هي الطريقة الأمثل لحماية صديقه أو انقاذه وانقاذ نفسه من القصف الجوي!
وهناك أسرة أحلام التي تخرج للبحث عنها وسط الحطام في بغداد، أيضا على نحو ساذج وغير مقنع.
دمار عام
وهناك أيضا لصوص بغداد الذين أخذوا يمارسون النهب والسلب، ويصطحب أحدهم أحلام بدعوى حمايتها ثم يتناوب على اغتصابها مع زملائه.
والغريب أن الفيلم يوحي لنا أن أحلام تقبل الذهاب معه والعيش في منزله باعتباره حبيبها "أحمد" الذي ألقي القبض عليه قبل 5 سنوات، ولا تكتشف خطأها إلا عندما يشرع في اغتصابها!
وبعد أن تتمكن من الهرب، تجوب الشوارع في مشاهد طويلة بطيئة مكررة للدمار العام الذي حل على العاصمة العراقية.
ولا تعود أحلام أبدا إلى المستشفى ولا إلى أسرتها، فهي تلقي بنفسها من فوق سطح وزارة المالية بعد أن تغافل الحراس أثناء معركة بين اللصوص وجنود المارينز.
هذا البناء الساذج يخضع لنفس القوالب القديمة المتهالكة في السينما العربية:
* الفتاة التي تنتهك براءتها كمعادل للوطن الذي تعرض أيضا للانتهاك على مستوى أشمل.
* افتعال خيوط درامية والاستطراد فيها لا لهدف إلا تصوير مشاهد تسجيلية: مشاهد نهر دجلة مثالا.
* تكرار مشاهد الأحلام والتخيلات والعودة إلى الماضي ولكن من دون حساب دقيق بحيث يصبح هذا الأسلوب هو المنهج الذي ينبني عليه الفيلم، بل إن هذه "التوليفة" تخضع للفوضى غير المنظمة.
ولا شك أن المخرج وفق كثيرا في اختيار أماكن التصوير، وفي تنفيذ مشاهد الاشتباكات الحية والانفجارات، وفي تقديم لقطات جيدة من الناحية التشكيلية.
ولا شك أيضا في توازن رؤيته السياسية، ففيلمه يقول إن العراق كان يعاني في زمن صدام، ولا يزال يعاني بعد الغزو ورغم الوعد بالحرية.
مغامرة مثيرة
ولا شك أيضا في شجاعة مخرجنا وجرأته الشديدة التي دفعته إلى التصوير في بغداد لمدة 55 يوما وسط كل مخاطر اللحظة.
لقد تعرض محمد الدراجي للاختطاف من جانب البعثيين وتعرض للاعتقال من جانب قوات التحالف وألقي به في سجن أبو غريب - كما يذكر في أحاديثه المنشورة- ثم تعرض هو وفريق عمله للقصف أكثر من مرة من جانب الطائرات الأمريكية.
هذه المغامرة المثيرة- دون شك- كانت جديرة بالتسجيل في فيلم آخر وثائقي ربما كان سيصبح أكثر إثارة للاهتمام من فيلم "أحلام".
هذه العوامل التي نعتبرها "على هامش الفيلم"، لا تجعل "أحلام" عملا سينمائيا يبقى في الذاكرة.
والعيب، لا يتجسد فقط في الإخراج البدائي وتحريك الممثلين على طريقة المسرح المدرسي، وإيقاف الصورة أو إظلامها فجأة في المشاهد الأخيرة من الفيلم بطريقة تعد اعتداء فظاً على الذوق البصري، بل يكمن أساساً في منهج وطريقة بناء السيناريو.
التكلف هنا واضح، وكذلك الحشو والاستطراد والثرثرة والافتعال والابتعاد عن أهم ما يميز السينما كفن أي الاقتصاد: في السرد وفي الزمن، فأنت لا تستطيع أن تروي كل شئ عن كل شئ، أليس الفن اختيار في نهاية الأمر!
تعليقات
إرسال تعليق